صراع الظلال- حرب استخباراتية إسرائيلية إيرانية مستمرة

المؤلف: محمد بيات08.26.2025
صراع الظلال- حرب استخباراتية إسرائيلية إيرانية مستمرة

كشفت المواجهات المحتدمة التي استمرت اثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل عن حقبة جديدة من "حرب الظلال" المستمرة، وهي صراع خفي يدور رحاه بين جهاز الموساد الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات الإيرانية المتعددة.

فقبل الثالث عشر من يوليو/تموز عام 2025، كانت ساحة الصراع بين طهران وتل أبيب تقع تحديدًا ضمن المنطقة "الرمادية" من العمليات السرية، حيث يسعى كل طرف بجهد حثيث لاستغلال مواطن قوته الكامنة والتركيز بشكل مكثف على نقاط الضعف لدى الطرف الآخر، بهدف تغيير ميزان القوى في هذا الصراع المعقد لصالحه.

وبرز الموساد، باعتباره أحد أقوى وأعرق أجهزة الاستخبارات في العالم، بتاريخه الطويل والمثير للإعجاب في عمليات الاغتيال المعقدة والتخريب المتقن، واستهداف المواقع الحساسة والاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره، كأداة إسرائيلية رئيسية وحاسمة لإضعاف وتقويض البرنامج النووي والصاروخي والإقليمي الطموح لإيران واحتوائه بشكل فعال.

في المقابل، قامت أجهزة الأمن الإيرانية المختلفة – وعلى رأسها وزارة الاستخبارات والأمن القومي (واجا) وجهاز استخبارات الحرس الثوري الإسلامي – بتشكيل جبهة دفاعية متينة وشاملة للتصدي الحازم لعمليات الموساد المتسللة داخل حدود البلاد.

وعلى الرغم من أن نار الحرب المباشرة بين إيران وإسرائيل قد خمدت بصورة مؤقتة بفضل وساطة أميركية وقطرية، فإنه لا يلوح في الأفق ما يشير إلى أن المعركة الاستخباراتية المحتدمة بين الطرفين قد توقفت أو هدأت، بل لا تزال مستعرة تحت الرماد.

أجهزة الأمن الإيرانية: رقصة مع الذئاب

قبل أسبوع واحد فقط من انطلاق عملية "الأسد الصاعد" الإسرائيلية السرية ضد إيران، أعلنت وزارة الاستخبارات الإيرانية في بيان مفاجئ وغير مسبوق أنها تمكنت ببراعة من الحصول على "آلاف الوثائق السرية" الإسرائيلية من خلال عملية معقدة ومتشعبة.

ووفقًا لما بثه التلفزيون الرسمي الإيراني، نقلًا عن "مصادر موثوقة ومطلعة في المنطقة"، فإن طهران قد نجحت في الحصول على كم هائل وضخم من المعلومات والوثائق الحساسة للغاية، بما في ذلك آلاف الملفات الهامة المتعلقة بالمنشآت النووية الإسرائيلية الحساسة.

وأوضح البيان الرسمي أن هذه العملية الدقيقة قد تمت منذ فترة طويلة، إلا أن السلطات الإيرانية المعنية التزمت الصمت التام حيالها؛ حفاظًا على سلامة عملية نقل الوثائق السرية القيمة إلى داخل البلاد. وتشير مصادر عبرية إلى أن هذه العملية قد نُفذت في منتصف عام 2024.

ووفقًا لتصريحات رافائيل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد تمكنت الأجهزة الإيرانية خلال هذه العملية الناجحة من الحصول على معلومات تفصيلية تتعلق بمفاعل "سوريك" البحثي.

وبحسب ما ذكرته القناة الإسرائيلية "كان"، فإن أجهزة الأمن الإيرانية، خلال فترة العشرين شهرًا التي أعقبت معركة "طوفان الأقصى"، نجحت ببراعة – عبر استخدام "الشبكة المظلمة" وشبكات التواصل الاجتماعي المختلفة – في تجنيد عدد كبير من سكان الأراضي المحتلة، مستخدمة أساليب الإغراء المالي أو انتحال الهويات المزيفة.

وفي عام 2024 وحده، استجوب جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "الشاباك" ما لا يقل عن 650 شخصًا بتهمة التعاون مع جهاز استخبارات إيران. ووفقًا لمصادر عبرية موثوقة، تلقى هؤلاء الأفراد تدريبات مكثفة على جمع المعلومات الحساسة، وتصوير مواقع استراتيجية، وتعقّب شخصيات رئيسية وتحديد مواقعها بدقة، بالإضافة إلى تنفيذ مجموعة متنوعة من المهام الأمنية غير المباشرة، وتم تمويلهم بسخاء لهذا الغرض تحديدًا.

أما فيما يتعلق بمحاولات الاغتيال، فعلى الرغم من شح التفاصيل المتاحة، فإن حسابات أمنية مقربة من تل أبيب، أشارت إلى أن إيران كانت قريبة للغاية خلال الحرب من اغتيال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، غير أن جهاز "الشاباك" تمكن في اللحظة الأخيرة من إحباط هذه العملية الخطيرة.

ورغم فشل هذه المحاولة، فإن المؤشرات القوية تفيد بأن وتيرة التغلغل والعمليات الأمنية الإيرانية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة قد شهدت تصاعدًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة، وساهمت في إيجاد توازن نسبي أمام الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.

الموساد: انهض واضرب أولًا!

لم تكن عملية بيع قطع إلكترونية ملوثة لإيران، ولا الهجوم السيبراني المشترك بين الموساد ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" ضد منشأة نطنز النووية تحت اسم "ستاكس نت"، هي آخر العمليات المعقدة التي تم تنفيذها داخل الأراضي الإيرانية.

فعلى مدار العقدين الماضيين، تمكن جهاز الموساد، بالتعاون الوثيق مع أجهزة استخبارات حليفة، من زرع شبكة واسعة النطاق من العناصر داخل البنية الأمنية والعسكرية الإيرانية، وجمع كم هائل من المعلومات الحساسة والاستراتيجية، الأمر الذي أتاح لإسرائيل توجيه سياساتها الإستراتيجية بدقة متناهية، والتدخل بفعالية في دوائر توريد المعدات المحظورة، وتهيئة الظروف المثالية لعمليات مباشرة محتملة داخل إيران.

ولكن كما يقر بذلك صراحة كل من بنيامين نتنياهو أو ديفيد برنيع، فإن هذه العمليات لا تشبه دومًا القصص الخيالية المثيرة التي تدور حول شخصية "جيمس بوند"، بل كثيرًا ما تعتمد على استغلال جهاز الموساد للثغرات الاقتصادية والأمنية الموجودة داخل إيران.

فعلى سبيل المثال، في عملية اغتيال محسن فخري زاده – أحد أبرز العلماء النوويين العاملين في مركز "سبند" التابع لوزارة الدفاع الإيرانية – استطاع الموساد ببراعة إدخال قطع سلاح متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي عبر شبكة متطورة لتهريب الكحول من الحدود الغربية للبلاد.

وبعد الحصول على معلومات دقيقة حول تحركاته من خلال عميل مزروع في الدائرة المقربة منه، نُصب له كمين محكم في منطقة "آبسرد"، واغتيل بوحشية بدعوى أنه كان العقل المدبر وراء تطوير البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل.

ومن بين كبرى العمليات الأمنية التي نفذها الموساد داخل إيران أيضًا: عملية سرقة وثائق البرنامج النووي من ورشة سرية في منطقة "تورقوزآباد". حيث تسلل عملاء الموساد إلى البلاد عبر شبكة لتهريب البشر، ثم وبعد إتمام عملية سرقة الوثائق بنجاح، أحدثوا "توترًا مصطنعًا" بالاستعانة بعصابات محلية مدفوعة الأجر بهدف تشتيت انتباه القوات الأمنية، ونجحوا في تهريب الوثائق المسروقة عبر الحدود الشمالية الغربية للبلاد.

وبمناسبة الحرب الأخيرة، نشرت مجلة "تايم" الأميركية الشهيرة تقريرًا مفصلًا عن التغلغل الإسرائيلي العميق داخل إيران.

وبحسب هذا التقرير، عمل جهاز الموساد منذ عام 2010 على اختراق منشآت نووية وصاروخية وطائرات مسيرة داخل البلاد، الأمر الذي مكن إسرائيل من جمع معلومات دقيقة واستخبارات حاسمة ساعدتها في لحظات سياسية حرجة، مثل مفاوضات حكومة الرئيس الإيراني السابق روحاني ثم خلفه رئيسي مع إدارة الرئيس الأميركي بايدن لإحياء الاتفاق النووي المثير للجدل، أو للتحضير الجدي لخيار "الضربة العسكرية ضد إيران" إذا لزم الأمر.

حملة وسط الحروب

وعلى الجبهة المقابلة، وبينما كانت طهران تركز جهودها بشكل أساسي على إستراتيجية "طوق النار" حول الأراضي الفلسطينية المحتلة، اضطرت – بسبب التهديدات المتواصلة من جهاز الموساد – إلى تشكيل وحدات موازية ضمن مؤسسات الدولة والجيش بهدف معالجة ملف "مكافحة التجسس الإسرائيلي" داخليًا وخارجيًا على حد سواء.

وتشمل العمليات التي قام بها الموساد خلال العدوان العسكري الأخير: إدخال قطع غيار ملوثة لتصنيع طائرات مسيرة داخل إيران، وإفساد بطاريات منظومات الدفاع الجوي الحساسة، واستغلال شبكات الجريمة المنظمة لإدخال عناصر قتالية مدربة وأسلحة متطورة، واستخدام وسائل اتصال محظورة (مثل صواريخ "سبايك" المضادة للدروع)، وتجنيد عملاء محليين لرصد مقار القادة السياسيين والعسكريين البارزين، وشن هجمات سيبرانية متطورة على البنوك (مثل بنك Sepah)، وتنفيذ تفجيرات موجهة ضد شخصيات علمية بارزة، وأخيرًا تجنيد أجانب لجمع المعلومات الحساسة وتنفيذ العمليات السرية.

ورغم الصدمة التي أحدثتها عمليتا "العرس الدموي" ضد القادة العسكريين و"نارنيا" ضد العلماء النوويين، فإن أجهزة الأمن الإيرانية سرعان ما رصدت نقاط الضعف في منظومة مكافحة التجسس لديها، وأطلقت حملة واسعة النطاق للتصدي بفعالية لعمليات الموساد المتواصلة.

شملت هذه الحملة المكثفة: تفعيل "الدفاع الشعبي" بهدف عرقلة عمل العدو، وإقامة نقاط تفتيش موسعة في جميع أنحاء البلاد، ورصد الورش المشبوهة التي يُحتمل استخدامها لتصنيع الطائرات المسيرة، وإحباط محاولات التفجير في المناطق المدنية المكتظة بالسكان، ومراجعة شاملة لبروتوكولات حماية الشخصيات الهامة.

وقد أدى هذا الإجراء إلى تراجع ملحوظ في عدد الاغتيالات وعمليات التخريب خلال الحرب، مما يدل بوضوح على تطور أداء الأجهزة الأمنية الإيرانية في مواجهة التهديدات المتواصلة التي يمثلها جهاز الموساد.

من هو الفارس المظلم؟

تُظهر التجربة التاريخية للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق أن "حرب الظلال" لا تقل أهمية عن الحرب النظامية التقليدية، بل قد تفوقها في التأثير والاختراق. ومنذ سقوط نظام صدام حسين وبداية حملة "أمننة" الملف الإيراني بعد الكشف عن برنامجها النووي، تصاعدت حدة المواجهة الشرسة بين طهران وجهاز الموساد.

ومن اغتيال مسعود علي محمدي إلى تصفية محمد مهدي طهرانجي، يثبت جهاز الموساد أنه على الرغم من تبنيه أساليب حديثة ومتطورة، فإنه لا يزال وفيًا لسياسة تصفية الشخصيات الفاعلة والمؤثرة.

ويكمن التحدي الأكبر الذي يواجه أجهزة الأمن الإيرانية في قدرتها على التغلغل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخلق توازن ردعي فعال، بالتزامن مع الاستعداد لمواجهة مخططات وابتكارات جهاز الموساد الجديدة في مجال تصفية العلماء والقادة الإيرانيين.

الفاعل الذي ينجح في حسم "حرب الظلال" لصالحه سيكون هو الطرف الذي يُرسي الأسس والقواعد الحاكمة لـ "الشرق الأوسط الجديد".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة